فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مقاتل: بل تقع على الأرض فتسوى بها.
وانتصب {صنع الله} على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها، فالعامل فيه مضمر من لفظه.
وقال الزمخشري: {صنع الله} من المصادر المؤكدة كقوله: {وعد الله} و{صبغة الله} إلا أن مؤكده محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ، والمعنى: {ويوم ينفخ في الصور}، فكان كيت وكيت، أثاب الله المحسنين، وعاقب المجرمين، ثم قال: {صنع الله}، يريد به الإثابة والمعاقبة، وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب، حيث قال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء}، يعني؛ أن مقابلته الحسنة بالثواب، والسيئة بالعقاب، من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها واجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد، وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم على حسب ذلك.
ثم لخص ذلك بقوله: {من جاء بالحسنة فله}،. إلى آخر الآيتين.
فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغًا واحدًا، وما لأمر أعجز القوى وأخرس الشقاشق، ونحو هذا المصدر، إذا جاء عقيب كلام، جاء كالشاهد لصحته، والمنادى على سداده، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما كان.
ألا ترى إلى قوله: {صنع الله}، و{صبغة الله} و{وعد الله} و{فطرة الله} بعد ما رسمها بإضافتها إليه تسمية التعظيم، كيف تلاها بقوله: {الذي أتقن كل شيء ومن أحسن من الله صبغة} {إن الله لا يخلف الميعاد} {لا تبديل لخلق الله}. انتهى.
وهذا الذي ذكر من شقاشقه وتكثيره في الكلام، واحتياله في إدارة ألفاظ القرآن لما عليه، من مذاهب المعتزلة.
والذي يظهر أن صنع الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، وهي جملة الحال، أي صنع الله بها ذلك، وهو قلعها من الأرض، ومرّها مرًّا مثل مر السحاب.
وأما قوله: إلا أن مؤكده محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ إلى قوله صنع الله، يريد به الإثابة والمعاقبة، فذلك لا يصح، لأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته، لأنه منصوب بفعل من لفظه، فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر، وذلك حذف كثير مخل.
ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة، وجد الجمل مصرحًا بها، لم يرد الحذف في شيء منها، إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد، إذ الحذف ينافي التوكيد، لأنه من حيث أكد معتنى به، ومن حيث حذف غير معتنى به.
وقيل: انتصب صنع الله على الإغراء بمعنى، انظروا صنع الله.
وقرأ العربيان، وابن كثير: يفعلون بالياء؛ وباقي السبعة بتاء الخطاب.
ولما ذكر علامات القيامة، ذكر أحوال المكلفين بعد قيام الساعة.
{والحسنة} الإيمان.
قال ابن عباس، والنخعي، وقتادة: هي لا إله إلا الله، ورتب على مجيء المكلف بالحسنة شيئين: أحدهما: أنه له خير منها، ويظهر أن خيرًا ليس أفعل تفضيل، ومن لابتداء الغاية، أي له خير من الخيور مبدؤه ونشؤه منها، أي من جهة هذه الحسنة، والخير هنا: الثواب.
وهذا قول الحسن، وابن جريج، وعكرمة.
قال عكرمة: ليس شيء خيرًا من لا إله إلا الله، يريد أنها ليست أفعل التفضيل.
وقيل: أفعل التفضيل.
فقال الزمخشري: {فله خير منها}، يريد الإضعاف، وأن العمل ينقضي والثواب يدوم، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد. انتهى.
وقوله: وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد، تركيب مختلف فيه، فبعض العلماء منعه، والصحيح جوازه.
قال ابن عطية: يحتمل أن يكون للتفضيل، ويكون في قوله: {منها}، حذف مضاف تقديره: خير من قدرها واستحقاقها، بمعنى: أن الله تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته.
قال ابن زيد: يعطى بالواحدة عشرًا، والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل. انتهى.
وقيل: ثواب المعرفة الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة، ولذة النظر إلى وجهه الكريم.
وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة، ولو لم تحمل الآية على ذلك، لزم أن يكون الأكل والشرب خيرًا من معرفة الله تعالى، وذلك لا يكون.
وقرأ الكوفيون: {من فزع}، بالتنوين، {ويومئذ}، منصوب على الظرف معمول لقوله: {آمنون}، أو لفزع.
ويدل على أنه معمول له قراءة من أضافه إليه، أو في موضع الصفة لفزع، أي كائن في ذلك الوقت.
وقرأ باقي السبعة: بإضافة فزع إلى يومئذ؛ فكسر الميم العربيان، وابن كثير، وإسماعيل بن جعفر، عن نافع، وفتحها، بناء لإضافته إلى غير متمكن؛ نافع، في غير رواية إسماعيل.
والتنوين في يومئذ تنوين العوض، حذفت الجملة وعوض منها، والأولى أن تكون الجملة المحذوفة ما قرب من الظرف، أي يوم، إذ جاء بالحسنة، ويجوز أن يكون التقدير: يوم إذ ترى الجبال، ويجوز أن يكون التقدير: يوم إذ ينفخ في الصور، ولاسيما إذا فسر بأنه نفخ القيام من القبور للحساب، ويكون الفزع إذ ذاك واحدًا.
وقال أبو عليّ ما معناه: من فزع، بالتنوين، أو بالإضافة، ويجوز أن يراد به فزع واحد، وأن يراد به الكثرة، لأنه مصدر.
فإن أريد الكثرة، شمل كل فزع يكون في القيامة، وإن أريد الواحد، فهو الذي أشير إليه بقوله: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين الفزعين؟ قلت: الفزع الأول: ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة نفع، وهو يفجأ من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به.
والثاني: الخوف من العذاب. انتهى.
والسيئة: الكفر والمعاصي ممن حتم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار.
وخصت الوجوه، إذ كانت أشرف الأعضاء، ويلزم من كبها في النار كب الجميع، أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان، كما يعبر عنها بالرأس والرقبة، كما قال: {فكبكبوا فيها} فكأنه قيل: فكبوا في النار.
والظاهر من كبت، أنهم يلقون في النار منكوسين، قاله أبو العالية، أعلاهم قبل أسفلهم.
ويجوز أن يكون ذلك كناية عن طرحهم في النار، قاله الضحاك.
{هل تجزون} خطاب لهم على إضمار القول، أي يقال لهم وقت الكب: هل تجزون. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَيَوْمَ يُنفَخُ في الصور}.
إمَّا معطوفٌ على يومَ نحشرُ منصوبٌ بناصبِه أو بمضمرٍ معطوفٍ عليه. والصُّور هو القَرْنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلامُ عنْ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمَّا فرغَ الله تعالى مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهو واضُعه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرشِ متى يُؤمر» قال قلتُ: يا رسولَ الله ما الصُّور؟ قال: «القَرنُ» قال قلتُ: كيف هُو؟ قال: «عظيمٌ والذي نفسي بيدِه إنَّ عظَم دارةٍ فيه كعرضِ السماءِ والأرضِ فيُؤمر بالنَّفخِ فيه فينفُخ نفخةً لا يبقى عندها في الحياةِ أحدٌ غيرُ مَن شاء الله تعالى وذلك قولُه تعالى: {وَنُفِخَ في الصور فَصَعِقَ مَن في السموات وَمَن في الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله} ثم يُؤمر بأُخرى فينفخُ نفخَّة لا يبقي معها ميتٌ إلا بُعث وقامَ وذلك قولُه تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}».
والذي يستدعيِه سباقُ النَّظمِ الكريمِ وسياقُه أنَّ المرادَ بالنَّفخ هَهُنا هي النفخة الثانية وبالفزعِ في قوله تعالى: {فَفَزِعَ مَن في السموات وَمَن في الأرض} ما يعتري الكلَّ عند البعثِ والنِّشورِ بمشاهدةِ الأمورِ الهائلةِ الخارقةِ للعاداتِ في الأنفس والآفاق من الرُّعبِ والتَّهيبِ الضرورريينِ الجبليينِ. وإيرادُ صيغةِ الماصي مع كونِ المعطوفِ عليه أعني ينفخُ مضارعًا للدِّلالةِ على تحقق وقوعِه إثرَ النَّفخِ، ولعلَّ تأخيرَ بيانِ الأحوالِ الواقعةِ عند ابتداءِ النَّفخةِ عن بيانِ ما يقعُ بعدها من حشرِ المكذبينَ من كلِّ أُمَّة لتثنيةِ التَّهويل بتكريرِ التَّذكيرِ إيذانًا بأنَّ كلَّ واحدٍ منهما طَّامةٌ كُبرى وداهيةٌ دهياء حقيقة بالتَّذكيرِ على حيالِها، ولو رُوعيَ التَّرتيبُ الوقوعيُّ لربما تُوهم أنَّ الكلَّ داهيةٌ واحدةٌ قد أُمر بذكرِها كما مرَّ في قصَّةِ البقرةِ {إِلاَّ مَن شَاء الله} أي أنْ لا يفزعَ قيلَ: هُم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ وعزرائيلُ عليهم السَّلام، وقيلَ: الحُورُ والخَرَنةُ وحَمَلةُ العَرْشِ {وَكُلٌّ} أي كلُّ واحدٍ من المبعوثينَ عند النَّفخةِ {أَتَوْهُ} حضُروا الموقف بين يدي ربَّ العِزَّة جلَّ جلالُه للسؤالِ والجَوَابِ والمُناقشةِ والحسَابِ. وقُرىء أَتَاهُ باعتبارِ لفظِ الكلِّ كَما أنَّ القراءةَ الأُولى باعتبارِ معناهُ. وقُرىءَ آتُوه أي حاضِرُوه {داخرين} أي صاغِرينَ. وقُرىء دَخِرينَ.
وقولُه تعالى: {وَتَرَى الجبال} عطفٌ على يُنفخ داخلٌ في حكمِ التَّذكيرِ. وقوله عز وجل: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي ثابتةً في أماكنِها إمَّا بدلٌ منه أو حالٌ من ضميرِ تَرَى أو من مفعولِه. وقولُه تعالى: {وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} حالٌ من ضميرِ الجبالِ في تحسبُها أو في جامدةً أي تَرَاها رأيَ العينِ ساكنةً والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السَّحابِ التي تسيرها الرِّياح سيرًا حثيثًا، وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحوَ سمتٍ لا تكادُ تتبينُ حركتُها وعليهِ قولُ مَن قالَ:
بأرعنَ مثلِ الطَّودِ تَحْسَبُ أنَّهم ** وقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ

وقد أُدمج في هذا التشبيهِ تشبيهُ حالِ الجبالِ بحالِ السَّحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما في قولِه تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} وهذا أيضًا ممَّا يقعُ بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ عند حشرِ الخلقِ يُبدِّلُ الله عزَّ وجلَّ الأرضَ غيرَ الأرضِ يُغير هيآتِها ويُسيِّر الجبالَ عن مقارّها على ما ذُكر من الهيئةِ الهائلةِ ليُشاهدَها أهلُ المحشرِ وهيَ وإنِ اندكتْ وتصدعتْ عند النَّفخةِ الأولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانية كما نطقَ به قولُه تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى} وقولُه تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} فإنَّ اتباع الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليه السَّلام وبروز الخلقِ لله تعالى لا يكونُ إلا بعدَ النَّفخةِ الثَّانيةِ وقد قالُوا في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وحشرناهم} إنَّ صيغةَ الماضِي في المعطوفِ عليه مُستقبلًا للدِّلالةِ على تقدمِ الحشرِ على التسييرِ والرؤيةِ كأنَّه قيلَ وحشرناهُم قبلَ ذلك هذا وقد قيلَ إنَّ المرادَ هي النَّفخةُ الأُولى والفزعُ هو الذي يستتبعُ الموتَ لغايةِ شدَّةِ الهولِ كما في قولِه تعالى: {فَصَعِقَ مَن في السموات وَمَن في الأرض} الآيةَ فيختصُّ أثرُها بمنَ كان حيَّا عندَ وقوعِها دُونَ مَن ماتَ قبلَ ذلك من الأُمم. وجُوِّز أنَّ يرادَ بالإتيانِ داخرينَ رجوعُهم إلى أمرِه تعالى وانقيادُهم له ولا ريبَ في أنَّ ذلك ممَّا ينبغي أنْ تنزه ساحةُ التَّنزيل عن أمثالِه. وأبعدُ مِن هذا ما قِيل إنَّ المرادَ بهذه النَّفخةِ نفخةُ الفزعِ التي تكونُ قبل نفخةِ الصَّعقِ وهي التي أريدتْ بقولِه تعالى: {مَا يَنظُرُونَ هَؤُلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحدة مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} فيسيِّرُ الله تعالى عندها الجبالَ فتمرُّ مرَّ السَّحابِ فتكون سرابًا وتُرجُّ الأرضُ بأهلِها رجًَّا فتكون كالسَّفينةِ الموثقة في البحرِ أو كالقنديلِ المعلَّق ترججه الأرواحُ فإنَّه ممَّا لا ارتباطَ له بالمقامِ قطعًا، والحقُّ الذي لا محيدَ عنه ماقدمناه ومَّما هُو نصٌّ في البابِ ما سيأتي من قولِه تعالى: {وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ} {صُنْعَ الله} مصدرٌ لمضمونِ ما قبله أي صنعَ الله ذلك صُنعًا على أنَّه عبارةٌ عمَّا ذُكر من النَّفخِ في الصُّورِ وما ترتَّب عليهِ جميعًا قُصد به التنبيهُ على عظَمِ شأنِ تلك الأفاعيلِ وتهويلِ أمرِها والإيذانُ بأنَّها ليستْ بطريقِ إخلالِ نظامِ العالمِ وإفسادِ أحوالِ الكائناتِ بالكُلِّية من غيرِ أنْ يدعوَ إليها داعيةٌ أو يكونَ لها عاقبةٌ بل هي من قبيلِ بدائعِ صُنعِ الله تعالى المبنية على أساسِ الحكمةِ المستتبعةِ للغاياتِ الجميلةِ التي لأجلِها رُتبت مقدماتُ الخلقِ ومبادىءُ الإبداعِ على الوجهِ المتينِ والنَّهجِ الرَّصينِ كما يُعرب عنه قولُه تعالى: {الذى أَتْقَنَ كُلَّ شيء} أي أحكَم خلقَهُ وسوَّاهُ على ما تقتضيِه الحكمةُ.
وقولُه تعالى: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} تعليلٌ لكون ما ذُكر صُنعًا مُحكمًا له تعالى ببيانِ أنَّ عِلمَهُ تعالى بظواهرِ أفعالِ المُكلفينَ وبواطنِها مَّما يدعُو إلى إظهارِها وبيانِ كيفيَّاتِها على ما هِيَ عليه من الحُسنِ والسُّوء وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرِهم، وجعلُ السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ على وُفقِ ما نطقَ به التَّنزيلُ ليتحققُوا بمشاهدةِ ذلك أنَّ وعدَ الله حقٌّ لا ريبَ فيه. وقُرىء خبيرٌ بما يفعلونَ.
وقولُه تعالى: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا}.
بيانٌ لما أُشير إليه بإحاطةِ علمِه تعالى بأفعالِهم من ترتيبِ أجزيتِها عليها أي مَن جاءَ منكُم أو من أولئكَ الذين أتَوه تعالى بالحسنة فله من الجزاءِ ما هو خيرٌ منها إمَّا باعتبارِ أنَّه أضعافُها وإمَّا باعتبارِ دوامِه وانقضائِها. وقيلَ فلُه خيرٌ حاصلٌ من جهتِها وهو الجنَّةُ. وعن ابنِ عَّباسٍ رضي الله عنهما: الحسنةُ كلمةُ الشَّهادةِ {وَهُمْ} أي الذينَ جاءوا بالحسناتِ {مّن فَزَعٍ} أي عظيمٍ هائلٍ لا يُقادر قَدرُه وهو الفزعُ الحاصِلُ من مشاهدة العذابِ بعد تمامِ المُحاسبةِ وظهورِ الحَسَنات والسيئاتِ وهُو الذي في قولِه تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} وعن الحَسَنِ رحَمهُ الله تعالى حينَ يُؤمر بالعبدِ إلى النَّارِ. وقالَ ابنُ جريجٍ: حينَ يذُبح الموتُ ويُنادِي المنادي: يا أهلَ الحنَّةِ خلودٌ فلا موتَ ويا أهلَ النَّارِ خلودٌ فلا موتَ.
{يَوْمَئِذٍ} أي يومِ إذْ يُنفخ في الصُّور {ءامِنُونَ} لا يعتريهم ذلكَ الفزعُ الهائلُ ولا يلحقهم ضررُه أصلًا، وأما الفزعُ الذي يعتري كلَّ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ غيرَ مَنِ استثناه الله تعالى فإنَّما هو التَّهيبُ والرُّعبُ الحاصلُ في ابتداءِ النَّفخةِ من معاينةِ فنونِ الدَّواهي والأهوالِ، ولا يكادُ يخلُو منه أحدٌ بحكم الجبلَّةِ وإنْ كان آمِنًا من لُحوق الضَّررِ. والأمنُ يُستعمل بالجارِّ وبدونِه كما في قولِه تعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} وقُرىء من فزعِ يومئذٍ يالإضافةِ مع كسر الميم وفتحِها أيضًا والمرادُ هو الفزعُ المذكورُ في القراءةِ الأُولى لا جميعُ الأفزاعِ الحاصلةِ يومئذٍ. ومدارُ الإضافةِ كونُه أعظمَ الأفزاعِ وأكبرُها كأنَّ ما عداهْ ليس بفزعٍ بالنسبةِ إليهِ.
{وَمَن جَاء بالسيئة} قيل هو الشركُ {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ في النار} أي كُبُّوا فيها على وجوهِهم منكوسين أو كُبَّت فيها أنفسُهم على طريقةِ {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى} {النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} على الالتفاتِ للتَّشديدِ أو على إضمارِ القولِ أي مقولًا لهم ذلك. اهـ.